هاهو الليل يسحب رداءه الاسود على هذه البقعة. اما ضوء القمر فقد غيبته الغيمات الباكية. بدأ الشتاء!! المطر لم يتوقف منذ الصباح، رذاذ خفيف والطريق جميلة تمتد على طرفيها مروج خضراء واجمات عدة. في الدرب المرصوفة يمر الاصدقاء، يلقون تحية الصباح ويهرولوا مسرعين. اسير وحيدا يغطيني ذلك المعطف الفضفاض متأبطا حقيبتي وذكرياتنا الشتائية
هناك كانت السماء تمطر بغزارة والرياح تسوط الغيوم الهاربة كقطعان بقر، والشمس تطل خجلة من وراء حجاب الغيوم فتتسابق طيور المسجد القديم لتلتقط خيوط الشمس وتنسج منها دفء ابتسامك. الريح تعوي، السماء تبكي، والامطار غسلت الأسطح القرميدية وسط المدينة. دموع الجدران بادية عليها وفي البعيد لاحت الجبال اللازوردية الحزينة والعصافير تنسج من عبير الياسمين جدائلاً لخضرة عينيك
بدأت الشمس توشي اطراف الغيوم بلون قرمزي بديع اختفى قوس قزح وهربت الوانه من بين اصابعي. كانت سياط الرياح قاسية على خديك الحريريين وشفتاك ترتجفان خوفاً ام اضراباً؟ "آه كم اشتهي طعم النبيذ". وشعرك الحر الطويل الذي يرحل فيه الشمس صباحاً ومساءاً يكاد يطير مع الريح فيهف على وجهي كالنسيم الربيعي الذي طالما اشتقت اليه، كفراشة سرقت الربيع من عينيك ورحلت تهديه للجليل منذ الف عام
!معطفك الابيض هذا ملائم لبنطال الجينز -
ايضاً كان معطفك فضفاضاً صافي اللون كقلبك كالثلج الذي انتظره هنا بين لحظة واخرى. النهر الذي يقطع المدينة يضحك لنا والجبال البعيدة بدت واجمة حزينة. الشمس تركض مسرعة لا تستجيب لرجائنا ولا ندائنا والسماء رمادية. توقف المطر وقطعان الغيوم تركض هائجة والريح تعزف لحنها الاخير صوت ناي حزين ينبعث من بين جدران قلبي اشعر بحنان ودفء رائع. اضمك الى صدري احاول قضم الشفة المضطربة حينما فاجئنا احد بخبث متعمد : أه يا مجانين!!
الشمس تغيب مبكرة هنا. الوقت لا زال باكراً غير ان الظلام احتل كل شيء. اغادر المقهى برفقة فتاة كنت ابحث عنك في عيونها وفي حركات يديها الهزيلتين. ترتدي ايضا معطفاً ابيضاً عيناها غريبتان حنونتان نقف عند باب المقهى همست لي بكلمتين قبلت خدي وذهب ووعدت وحيداً
اسير في الدرب الطويل. تحاصرني الغربان السوداء وشيء ما بداخلي يذكرني بك. كل شيء حولي يذكرني بك. الهدوء اجمل ما في الحياة. الهدوء والليل يتقاسمان المكان وليس الا الغربان تنعق بين الفينة والاخرى. ارى مساحة من الضوء اركض نحوها تهرب مني ويخبو الامل
ادخل غرفتي حزينا. ليس الا بقايا انسان وبعض الذكريات تحتل رأسي والمكان تطرق نواقيس كثيرة. قبل اشهر كنا معاً تملئين حياتي فرحا ورغبة، تغنين وترقصين كنت مثل كل الفتيات توزعي الابتسام وتمسحين دموع الرجال. كنت الى جانبي فاين انت الان؟ يكاد صوتك ان يقطع صمت الزمان يكاد ان يصرخ في هذا الصمت العفن يكاد يمتد في نفسي ويتشعب فيها مثل روح القدس. فارجوك! اتوسل اليك لا تتركيني وحيدا عودي الي او خذيني معك في رحلة الاغتراب
2
ترى أ كنت اقصدك حينما عانقتها بحنان وقبلت خديها وحين انسدل شعرها الذهبي على كتفي؟شعرت بالمرارة وانا اشعر بيدها تمسح دموعي. كنت افكر بك استرجع لحظات الوداع الاليمة أتذكرين؟ كنا وحيدين في مقهى متداخل في البحر مثل عناق حبيبين كانت تجمع بيننا الدموع ونظرات الالم لكننا كنا نعرف اننا على موعد اخر مع البحر وبيروت الحبيبة. كنا على يقين بان هذه ليس النظرات الاخيرة التي نتبادلها وان فنجان القهوة لن يكون الاخير. كنا نعرف ان كلمات الامل في تلك الثواني الاخيرة التي تركض مسرعة مثل ريح تلك الليلة الخريفية هي ما سيبقى معنا حتى اللقاء القادم وكنا نعرف ان قبلات الوداع هو ما سيدفئ القلب حتى قبلات اللقاء
اما الان؟ فقد ابتلعنا المنفى وسرقنا من جديد! نعم هو المنفى. لكنه مطرز الان بحياكة اخرى. منفى مشرق بشمس كاذبة تسرق حرارتها الرياح القطبية فلا يبقى من الشمس الا القرص القرمزي المنعكس برومانسية شديدة على سطح ثلج الليلة الماضية الابيض
سرقتني الغربة مني جديد يا حبيبتي واخذت تأكل ذكرياتي. وضعت ايامي على سكة حديد ودفعتها بسرعة وسؤالك الازلي يطاردني في صحوي وفي احلامي "متى ستعود؟ متى ستهجر حضن الغربة وتضع رأسك على صدري وتنام هادئاً؟". احتار. اطارد غربتي، اقتل منفاي بي واسأل نفسي ما العمل؟ لا قُبلة يمكن ان الثم ثراها ولا الحدود تفتح بالشوق والحنين فبأي الاحلام سأنتصر وبأي مجد سأعود؟؟
حرارة الشوق تأكل قلبي وجليد المنفى يقطع اوصال افكاري. هو المنفى وليس الان من خيار لا عودة لي يا حبيبتي وليس الا ضوء القمر الفضي يتسلل من نافذة احلامي ونجوم تلمع وسط سماء سوداء. الجو صقيعي والخوف يحتل قلبي. درجة الحرارة ما دون الصفر. ملابسي مضجعة على الكرسي العتيق مثل ضيف ثقيل الظل وبضع صفحات وقلم تتوسط المنضدة. الساعة اوشكت على الرابعة صباحاٌ. طيفك لا زال يرقص امامي وخلف النافذة فراشة ملونة سقطت من شدة البرد
3
لانني اشتاق اليك وانت بجانبي يقتلني الشوق اليك وانت هناك. الصمت قاتل هنا وليس الا عقرب الثواني ينبأ بميلاد وقت وموت لحظات. وانت هناك. تقفين قبالة ذلك الشاطئ البعيد تلوحين بيدك للسفن القافلة وتلوحين مودعة للسفن الذاهبة نحو الاغتراب وللنوارس القادمة الي وللذكريات. هناك يبدو طيفك ورحيل همساتك الي وما تحمله الاماني من شوق ومن حنين
وانا هنا. احمل قنديل ابتسامك وذنوب طفولتي وما تبقى من جسد وارجو البحر ان يبلغك شوقي اتوسل اليه ولكن هذا البحر لا قلب له! يثور بوجهي غاضباً لماذا يا بحر؟
هذا البحر يا حبيبتي ليس بحرنا. ليس كذاك الذي حدثتك عنه يوماً ونحن نرقب غفو المدينة من فوق قاسيون. وليس كذاك الذي حدثتك عنه ونحن نرقب شروق الشمس في صنين. فهذا لا زبده يحمل آلمي ولا يبدو فيه طيف بلادنا على البعيد. هناك كنا نفترش الرمال ونودع البحر اسرارنا نحدثه، نرسل عبره الاماني وقبلة حارة لاسوار مدينة السحر وشواطئ البرتقال القريبة البعيدة، حيث كانت تبدو اضواء مدينتنا ومنارة مينائها الاسيرة وبقايا صرخة ام ثكلى قتلوا طفلها. هناك كانت رائحة البرتقال تزكم انوفنا وتعيد ما نسينا من الذكريات وتعيد فرح الطفولة والحنين الى صوت الناي المنبعث من اعماق واد النسيان
تم اضافة كلمات من عندي في هذه الخاطرة
رجل مهزوم